العتمة هوية المكان.
كراسي فارغة تحدّق بمللٍ في مشهد لا يتبدّل.
حتى الظلال فقدت الرغبة في الحركة. وحده صوت الصمت يتدحرج بثقل فوق صدر الوقت.
جلست في الكواليس وحدها كأنما استفاقت للتو من غيبوبة. تتصرّف بطريقة آلية ولا تعلم ان كانت تسيّرها ذاكرة مدفونة أم أنها فقط غريزة البقاء.
بين يديها أوراق لكن النص تبخّر.
تشعر كأنها جنين يدفع به الى الحياة ولا يعلم أي دور عليه أن يؤدي.
ببرودة جرّاح تحضّر وجهها. تتسلّل اليها أفكار ومشاعر غريبة لكنها تتبنّاها وتتماهى معها. كأن تتأفّف لتغيّب المساعدين وباقات الورد ورسائل الاعجاب. كالثقة المنبثقة اليها من مصدر غامض. كشعور الطفل الذي يظن نفسه سيّد العالم.
على المسرح ترتجل مشهداً طويلاً. الضوء الذي أشعلته لحظة دخولها يعميها لكنها تعشقه كفراشة مأسورة بالشمس.
غارقة في نشوتها، تهنّىء نفسها لأنها انتزعت هذا الصمت… هذا الاصغاء.
تخرج من الضوء لملاقاة جمهورها و لا تجد سوى العتمة.
مهزومة تعود الى غرفتها، تحلق رأسها وتحدّق طويلاً في المرآة.
على الطاولة الجانبية سبع رؤوس.
عن الأول تنزع شعراً مستعاراً يبدو كأنه صنع من شعرها. تبدأ بطلاء وجهها بقناع يليق بالمناسبة…فراغ يلاقي فراغاً.
لا بد من شيء خلف هذه الوحدة.
تخرج الى المسرح مجدداً. زائر جديد هنا اسمه الغبار. تؤدي دورها المرتجل مجدداً، تنحني و تعود الى غرفتها تصفق الباب كمراهق غاضب بدأ يشعر أن العالم يتآمر ضده.
في اليوم التالي تنزع عن الرأس الثاني شعراً بلونٍ سوريالي. تخرج و تؤدي رقصة محارب ذهب لمواجهة المحتّم.
يقابلها الصمت الدمث ذاته وعنكبوت صغير يغزل خارطة انتظار.
للرأس الثالث شعر مهرّج. بعض الهزل قد يصلح لمعاندة الخيبة لكن لا أحد يضحك هنا سوى ظلها.
على الرأس الرابع قبعة. تضعها فوق رأسها الحليق، تشدها الى الأمام فوق خجلها. لا تريد أن ترى شيئاً هذا المساء.
على الرأس الخامس مظلة. كامرأة اعتادت مواجهة وابل اللعنات تمسك بها و تخرج بخطى مغناج و لامبالية.
على الرأس السادس أغصان شجرة مثمرة. ترتيدها ولا تنظر الى المرآة التي شاخت أمامها. تخرج الى المسرح و تبقى صامتة كشجرة. للعبور أن يأخذ ما شاء من ثمر أو لا يأخذ، ذلك لا يغيّر شيئاً في الشجرة ولا يجرحها الغياب.
على الرأس الأخير، لا شيء. لكنها تعرف أن عليها تأدية الدور. عارية من الألقاب والاستعارات تخرج. بخطى من أراد لنفسه ألّا يكون الشاهد الوحيد على وجوده لكنه أدرك أخيراً أنه فوّت معرفة ذاته.
للمرة الأولى نلاحظ عينيها، نحن المتفرّجون المجهولون وراء الغيب، من خلف التاريخ و المستقبل، المدوّنون في دفاتر الزمان أصول و قواعد الوجود، المدقّقين في هويات العقلاء والمجانين وسفهاء القوم. نحن الكائنات العليا التي من أجلها تمر قوافل البشرية راجية ايماءة من رأسنا لتدل على أولئك الذين سندوّن أسماءهم في سجل الوجود أو نسقطهم في غياهب النسيان.
للمرة الأخيرة نلاحظ عينيها. هي التي باتت مدركة أن لا شيء مما ستفعله يدحرج الضجر عن قلوبنا، كسرت ببصيرتها الحجاب الرفيع الفاصل بيننا. في ركن قصي ترى رجلاً يرتدي معطفاً أسود وله هيئة قاتل متسلسل. يشير الرجل باصبعه الى ركن من المسرح تجنّبت دوماً النظر اليه.
تخطو سبع خطوات لتصل الى مقصلة. تنحني دون أمنية. تتساقط سبع نقاط حمراء و يتدحرج رأس حليق. تطير سبع فراشات و ترحل عبر ثقب تسلل منه شعاع صغير.
يمسك الرجل الرأس المقطوع و يذهب ليضعه في الكواليس.